أحبتي وساكني مُهجتي أهل هذا البيت العامر بكل علم غانم ..
سلام من الله عليكم ورحمته وبركاته ..
أكثرُ ما أرّقَني حين هممتُ بكتابة هذا الموضوع والذي كنتُ أحدث نفسي به منذ فترة طويلة بالكتابة عنه ولو بشيء يسير .. وأتمنى ألا يكون (( للابتوب الجائزة )) أثرٌ قوي في تحريك همتي نحو ما أسعى إليه ! وقد صدق ذاك الرجل العامي حينما قال : الآخرة تبي والدنيا تبي !
فأقول أيها الأحبة ..
أخشى ما أخشاه أن يأتي أحد رواد هذا المنبر الكريم زحفاً أو يمشي على قدميه أو راكباً راحلته ومسرعاً ليدخل هذا الموضوع بعد أن إلتقط عنوانه كلمة – تربوية – ومع أهل الحلال .. ظاناً هذا الأخ الحبيب المتعجل أن الكلام عن يدور عن تربية الحلال فيما يتعلق بحظائرها وأعلافها وأدوائها وسبل مداواتها .. وكيفية العناية بها ! ولا شك أننا كأهل حلال نُثمن هذا الأمر ونقدر أهميته لا سيما ونحنُ نحتاج إلى الخبرات الكبيرة والعميقة المتواجدة بيننا ولله الحمد .. ولا أظن أني – بفضل من الله وكرم – سأعجز لو تكلمتُ في هذا الباب بالذات في مجالي وهواياتي التي عشت معها ومارستها حيناً من الدهر يصل إلى قرابة عقدين من الزمان .. ولكني سأدع غيري يخوض في ذلك إقراراً مني أن هذا بحرٌ واسع وقعر عميق وأرى من هو أفضل مني وأحسن ليخوض عُبابه .. ولم أرهم قصّروا في هذا الجانب .. وحيث أننا أخوة نُكمّل بعضنا بعضاً .. فرأيت من المناسب أن أترك الخوض في مسائل التربية للحلال وإنما سأتطرق على نحو مختصر لأمور (( تربوية )) تهم – بإذن الله – أهل الحلال أكثر .. وأحسبُ أني سأقدم لهم ما ينفعهم .. أو على الأقل ما يذكرهم بالشيء الذي سأذكره ..
فأقول وبالله التوفيق :
الحلال نعمة من الله .. وتربيته والعناية به رغم ما فيها من التعب والنّصـَـب إلا أنّ فيها من راحة البال وانشراح الصدر الشيء الكثير .. وهذه بحدّ ذاتها نعمة كبيرة .. ولعلنا نرى في مجتمعاتنا القريبة من حولنا أناس يصرفون أموالاً طائلة في أسفارهم ينشدون الأنس والسعادة ولأيام قليلة فقط ! كل ذلك إبتغاء تغيير الجو وإمتاع النفس .. ولعلنا نتفق – كأهل حلال – أننا في كل يوم ندخلُ فيه إلى حظائرنا وأماكن وجود حلالنا نجد الراحة والإستمتاع والجمال .. مصداقاً لقول تعالى (( ولكم فيها جمال )) .. ولا نختلف أن الجمال سبيل للمتعة ..
الرزق من الله .. فهو الرزاق الكريم والإسترزاق بسبب الحلال .. هذه لها شأن آخر .. وكثيراً ما نخلط بينها وبين التربية وهي وإن كان لها علاقة كبيرة .. إلا أنها ليست لازمة .. بمعنى ليس كل من ربى الحلال يريد الإتجار به والإنتفاع منه .. كثروة تزيد من مدخوله ورصيده المادي .. ودليل ذلك أيها الأحبـة أن بعض من يربي الحلال يملك الملايين .. ولو ذكرت له وسائل تربية غير التي ألِفْ لوجود أخطاء عنده في طرق التربية وأنت تقصد زيادة الأرباح وفرص البيع له ، قاطعك قائلاً : لم أربها لغرض البيع ! .. إذن الإنتفاع المادي من خلال تربية الحلال حظُّ راعيه .. وهذا شأن مختلف وآخر عن (( نعمة التوفيق له كتربية )) فوجود حلال عند الشخص بحد ذاته يضفي عليه الراحة والمتعة وهذا ملحظ يغفل عنه كثير من الأخوة المربين ، فما أجمل تأمله والاستمتاع به منفصلاً عن نتائج التربية المادية .. حتى إذا لم يحصل المقصد المادي من حلاله – وهذا أمر وارد جداً – لا يُعدم نعمة الإستمتاع به كحلال يبهج النفس ويغير من روتين حياة صاحبه .. لاسيما في ظل حياتنا الصاخبة والتي تزداد تعقيداتها يوماً بعد يوم .. والمقصد استشعار ذلك الشيء الجميل دون ربطه بالأمور المادية .. لأنه ليس كل أحد يربي حلالاً لابد أن يستفيد منه مادياً ..
الحلال بأنواعه الكثيرة جميل وجماله متنوع .. وبكل حالاته سواء من كان يربيه في الحظيرة أو يربيه في البريّة .. وقد قال تعالى (( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون )) .. وليس كما يتصور البعض أن الجمال في نوعيات خاصة من صنف معين لوجود صفات بها .. بل الأمر أعمّ من ذلك حيث يتعلق بالجانب النفسي لدى الشخص .. ليس في هيئتها وبعض المواصفات التي تتوفر بها الدابة الجميلة كما تعودنا على ذلك .. فرواحها ومسراحها له شأن عند أهلها .. يقول ابن العربي : ومن جمالها كثرتها ! بل حتى تقديم الإراحة على التسريح في الآية له معنى عند أهل العلم واللغة .. يقول الزمخشري: لأن الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها .. فكل شخص له ذائقته الجمالية في حلاله .. فلا نبخس الناس حلالهم .. أو نجادلهم في أذواقهم ..
إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. فما لي أرى بعض أحبتي من أهل الحلال يُقسطون على حلالهم ويظلمونه .. متناسين أنّ في كل كبد رطبة أجـر ! بل نرى هذا أحياناً في الحظيرة الواحدة .. حيث الدابة التي نحب أو نرى أنها مستثمنة في قيمتها تُكرم وتُعزز وتوقر ! وغيرها يقل إكرامها حتى يصل الأمر إلى الجوع الذي يمسها ويؤثر على حالها .. والظلم لا يرضى به الله .. حتى بين الحلال نفسه وتذكرون حديث الشاة الجلحاء التي تقتص من القرناء يوم القيامة ، فالعدل العدل .. وإن العناية بأعلاف الحلال الطيب أمر مهم للغاية وبالذات لمن وسع الله عليه ويقدر على الأفضل .. وسواء كان ذلك لغرض دنيوي أو ديني .. والتقصير عليه يُدخل المُربي في المحظور الشرعي .. ولعلكم أيضاً أيها الأحبة .. لا تنسون قصة صاحبة الهرة التي دخلت النار بسببها ! .. ثم – وهذا مجرب – لا يدري الإنسان في أيّ حلاله تحلُّ البركـة .. فلتكن كريماً على الكل وعادلاً مع الجميع ..
العناية بالعمالة التي تحت أيدينا وتدير الحلال في غيبتك وحين تكون مشغولاً عنه وإكرامهم .. وفي هذا منفعتين عظيمتين الأولى دينية .. بأن تكسب قلوبهم وتؤثر بأخلاقك العالية على سلوكياتهم وربما على دينهم إن لم يكونوا غيرَ مسلمين .. علماً أن الأولى هو استقدام المسلم فقط .. والمنفعة الثانية دنيوية .. وهي لا شك عائدة على حلالك بالنفع والإهتمام والحرص والعناية من قبل العامل الذي أوليته شيئاً من اهتمامك وتقديرك فشكرَ ذلك الصنيع لك .. ولا ننسَ أن العامل بشر له أحساس ومشاعر .. وأذكر قصة حصلت لي قبل عشر سنوات .. عندما زُرت أخاً من أهل الحلال في عصرية ماتعة في أطراف الرياض .. ولم أجـده ووجدت عاملة ذي الجنسية الهندية .. وسألته عن صاحبي فأفادني بذهابه .. حيث أن زيارتي له من غير ترتيب وموعد .. وعندما ركبتُ سيارتي .. أنطق الله لساني على العادة حينما تريد توديع شخص .. تسأله السؤال الروتيني : توصي شيء ؟ إلا أني في هذه المرة أضفتُ عليها توصي شيء من الرياض يا فلان ؟ وقف العامل متأملاً ومستغرباً ومعبراً عن مشاعر عميقة في نفسه .. فقال لي : شكراً شكراً أنا لي أكثر من خمس سنوات ، لم أجد أحد سألني كما سألتني وقد تجمع الدمع في عينيه .. وكم أثرّ في نفسيتي هذا الموقف .. وأدركتُ أننا نعيش غفلة وربما تعالي خطير لم نشعر به بعد ! .. وهذا لا يليق بالنفس التواقة إلى ربها والمتواضعة إليه والراجية ما عنده سبحانه ..
غالباً ما ننظرُ إلى نفوق الحلال وهلاكه عندنا نظرة تشاؤم وسخط .. وكأنها عقوبة من الله في كل حال ؟! ونتناسى من نكون ؟ وكيف حالنا مع الله من قبل ؟ .. وحالنا مع الخلق ؟ .. وأننا مقصرون غاية التقصير في واجباتنا الكثيرة .. ولعل هذا الأمر يكون خيرة للمربي .. في دنياه بألا يغتر ويتكبر وينسب الفضل لنفسه .. أو في آخرته بأن كفّر اللهُ ذنوبه وغفر سيئاته .. وما أجمل أن يأتي يوم القيامة والشخص قد مرّ به من صروف الدهر في الدنيا ما يخفف عنه في الآخرة .. وفي الحديث الشريف قول النبي صلى الله عليه وسلم (( لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة )) .. فهل ننظر لهذا الأمر الحاصل والمتكرر معنا في حظائرنا وفي أوقات كثيرة بأنه إما تكفير للسيئات أو رفعةً للدرجات ؟!
مشكلة أراها متكررة ومتلازمة مع أكثر المربين من أخواني أهل الحلال .. وربما شعروا بها أو وقعوا بها من حيث لا يشعرون .. وقد استزلهم الشيطان حتى سقطوا في براثنها العفنة .. ألا وهي نسبة النجاح والتوفيق والفضل إلى النفس وقدراتها .. من حيث العناية بالحلال والأمهات والمراح والفحل وغير ذلك مما تعرفونه جيداً أيها المربون .. ونتناسى المُنعم المتفضل سبحانه الرزاق ذو العطاء العميم .. وهذا الأمر نفق مظلم .. ولا أبالغ إن قلت أنه يمسّ عقيدة الشخص .. حيث الأولى بكل مربي – وفقه الله – في تربيته وإنتاجه وبيعه وشراءه وعَرْضه .. أن لا يتكبر وينسى نفسه الصغيرة .. بل ينسب النعمة إلى مسديها ومعطيها وهو الله العظيم ..
الحلال له سحره .. ومن سحره الحلال أنه يسرق الأوقات .. ونحن لا نشعر .. وخصوصاً العاشقين له حتى الثمالة وما أكثرهم ! ولا شك أنّ الإفراط في شيء .. له مقابل في التفريط بشيء آخر .. فما أكثر ما نغفل عن بيوتنا وأهلنا وأولادنا ومن له حق علينا .. ونأخذ من وقتهم الثمين .. لنقضيه بين مظلات الحلال وشبوكه ومعالفه ومن ثم مجالس أهل الهواية الشيّقة ! والمربي راعيٍ وهو مسئول عن رعيته يوم القيامة .. فالبدار البدار .. فالزمن قد تغير وأهل السوء كثروا .. فلنحافظ على رعيتنا الأصيلة .. ولا نقدم عليها أحداً أبداً .. حتى لو كان ( الحلال ) عديل الروح ..
المنافسة جميلة ولها وقع على تحريك الهمم .. وتطوير الحلال .. وضرب الصعاب من أجلها .. لتكون الفائدة عائدة على المنافس بالخير العميم .. هذا إذا كانت منافسة شريفة .. لكن ما لي أرى البعض قد استمعوا لنصائح إبليس .. ووقعوا في حبائله ومكره .. حيث جعلوا من باب المنافسة .. مدخلاً ليلجوا معه وتلجُ معه أحقادهم وضغائنهم على أخوانهم المؤمنين الغافلين .. هل كان الحلال فرَجاً لهم ليمارسوا شرورهم على أخوانهم ويتطاولوا في أعراضهم .. وينالوا منهم بسببه ؟! هل البعير أو الناقة أو الشاة أو العنز سببٌ شرعي للنيل من أخي الذي أكرمه الله بالإسلام وله عِرضه وكرامته التي يجب أن تحترم وتُصان ؟ هل نسينا أن الشيطان أيسَ أن يعبد في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم ..
هذه الأخيرة ..
وهذه دونها خرق القتاد .. إلا من وفقه الله .. وكانت عينه على الله ومستشعراً أن الله مُطلع عليه .. حال إتمام عملية بيع أو شراء .. فما أكثر ما نتساهل ونتغافل ونتعامى عن التناصح في البيع والشراء .. والأطم من ذلك إخفاء العيوب لأجل حفنة من المال ستكون جمراً يوم القيامة .. وكأن الشاري لا ذمة له تُعطى ولا ميثاق يُرعى ! وليت شعري هل يرضى البائع الخائن لأمانة البيع أن يكون في مكان الشاري .. وأن يمارس عليه نفس الدور الذي كان هو بطلاً فيه ؟! المسلم الخائف الوجل هو الذي دائماً وأبداً في ( بيعه ) يراقب هذا الحديث والتوجيه النبوي الكريم وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (( فإن صدقا وبيّنا بورك لهما )) .. فهل صدق البائع في إظهار عيوب حلاله المبيوع .. وهل صدق الشاري في سداده وعزمه على أعطاء البائع حقه دون مماطلة .. وإن المرء لمسئول عن مطعمه هل هو طيب أم حرام ؟ فالسحت سيذهب للنار لا محالة .. لأنها أولى به ![COLOR="Blue"]
وهذه وقفات مختصرة أحببتُ بها مشاركة أخواني الفضلاء .. سائلاً المولى عزّ شأنه أن ينفع بها وأن تكون لي زاداً يوما ألقاه .. و أن يبصرنا في دنيانا وأن يفقهنا في ديننا .. آميـن ..
منقــول من مدونة اغنام" راعي الحلال وقناصه …"
تحياتي….
وجزاك الله خير